المناخ.. منطقة البحر المتوسط الساخنة
المناخ.. منطقة البحر المتوسط الساخنة
جرامينوس ماستروجيني
نائب الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط يكتب
The op-ed was published in Jeune Afrique, New Europe, Masrawy and Materia Rinnovabile
يوجد ضعف في حلقة الوصل بين الاكتشافات العلمية ووعي الجمهور بها بسبب المشكلات المتعلقة باللغة وقنوات نشر هذه الاكتشافات. ومع ذلك، لا يمكن غض الطرف عن بعض التخوفات، حيث نُشرت دراسة للتو في مجلة التقدم في علوم الغلاف الجوي (Advances in Atmospheric Sciences) [1] تحذر من تسارع ارتفاع درجة حرارة المحيطات وتحث على الاهتمام بتصريحات العلماء التي حاولوا خلالها استخدام عبارات مفهومة للجميع: زعم العلماء أن البحار قد امتصت في العام الماضي كمية كبيرة من الحرارة تكفي لغلي حوالي 1.3 مليار غلاية (بغض النظر عن الغلايات، امتصت الطبقة العليا من المحيطات بعمق 1.24 ميل -2 كيلومتر-في العام الماضي 20 زيتاجول إضافي مقارنةً بعام 2019). ومن الناحية المجازية، فليس ذلك سوى تأكيد مأساوي للمخاطر الشديدة التي يبدو أننا نحاول تجاهلها. لقد أوضح الباحثون -الذين عادةً ما يستخدمون لغةً عقلانية- أن ارتفاع درجات الحرارة يمثل تهديدًا لوجود البشرية يستمر رغم انخفاض الانبعاثات نتيجة لفيروس كوفيد-19 خلال العام الماضي.
في الحقيقة، تساعد المحيطات على الحد من الاحتباس الحراري العالمي، حيث تمتص أكثر من 90% من الحرارة الإضافية الناجمة عن تأثير الغازات الدفيئة، ثم تطلقها تدريجيًا في جميع أنحاء المنظومة بأكملها. ونحن لا نرى أن المحيطات أولويةً بالنسبة لنا؛ لأننا من سكان اليابسة. لكن ارتفاع درجة حرارة المحيطات يتسببّ في كوارث طبيعية على اليابسة التي نعيش عليها، إلى جانب زيادة الحرائق مثل تلك التي اندلعت في أستراليا والأمازون في عام 2020، الأمر الذي يرتبط بتسجيل أعلى درجة حرارة للمحيطات منذ 65 عامًا، والتي تُقاس من مستوى السطح إلى عمق 1.24 ميل.
إذا أخذنا اتساع المحيطات في اعتبارنا، يمكننا أن نتخيل مقدار الطاقة التي يمكن للمحيط أن يمتصها ويحتويها، ومدى عِظم التأثير عند إطلاق هذه الطاقة ببطء بعد ذلك، فالمحيطات الأكثر حرارةً تجعل العواصف أكثر قوةً، خاصةً الأعاصير والأعاصير الموسمية، كما أن الغلاف الجوي الأكثر حرارةً يزيد من هطول الأمطار الغزيرة في جميع العواصف، ما يزيد من مخاطر الفيضانات، وعلى النقيض من ذلك، يزيد من شدة الحرائق مثل تلك التي اندلعت في عام 2020. لذلك يجب أن نتوقع تأثيرات متزايدة بشكل مضطرد على حياتنا. والأهم من ذلك، يتعين علينا الآن التحرك واتخاذ الإجراءات اللازمة للاستعداد والتكيف؛ لأن تأخر رد فعل المحيطات على الاحتباس الحراري العالمي يعني أن التغيرات ستستمر لعدة عقود وستستمر في الزيادة.
في ضوء هذه الصورة التي تدعو إلى القلق بشكل عام يتركز الخطر في أحد مفترقات الطرق الحساسة والمعقدة للغاية بين المصالح والتوازنات، وهو أمر حاسم للمجتمع العالمي بأسره، ألا وهو البحر المتوسط. ومن بين جميع المناطق التي تم تحليلها بالتفصيل في هذا البحث، فإن البحر المتوسط يشكل الكتلة المائية التي سجلت أعلى ارتفاع في درجة الحرارة خلال السنوات الأخيرة، ما يؤكد ما تم التوصل إليه بالفعل في تقرير حالة المحيطات الأوروبية التابع لبرنامج “كوبرنيكوس” لعامي 2016 و2018؛ استمرارًا لعملية بدأت منذ حوالي ثلاثين عامًا ولكن مع زيادة أعلى من المناطق المحيطية الأخرى.
تتشابه هذه النتائج -من حيث البيانات التي تم وضعها في الاعتبار والنتائج المثيرة للقلق- مع تلك النتائج الواردة في التقرير الأخير المسمى: “المخاطر المرتبطة بالتغيرات المناخية والبيئية في منطقة البحر المتوسط” التي أصدرتها للتو شبكة خبراء البحر المتوسط حول المناخ والتغير البيئي (MedECC)، وهي شبكة تجمع خبراء البحر المتوسط المعنيين بالتغير المناخي والبيئي. بعيدًا عن البحار في حد ذاتها، فهي تتناول منطقة البحر المتوسط بالدراسة من أبعادها المختلفة وتسلط الضوء على حقيقة أن -في حين أن مياه بحرنا ترتفع درجة حرارتها بشكل أسرع- فإن المنطقة ككل تحتل المركز الثاني في العالم من حيث التقدم السريع في الاحتباس الحراري. وفي منطقة البحر المتوسط ، ارتفع متوسط درجة الحرارة مقارنةً بعصر ما قبل الصناعة بمقدار 1.5 درجة مئوية، كما يزداد الاحتباس الحراري بنسبة 20% أسرع من المتوسط العالمي. إذا لم نتصدى لهذه المخاطر من خلال إجراءات تهدف إلى التخفيف من حدتها، فمن المتوقع أن تسجل بعض المناطق ارتفاعًا يصل إلى 2.2 درجة مئوية في عام 2040، و3.8 درجة مئوية في عام 2100، إضافة إلى التداعيات الكارثية على سكان البحر المتوسط الذين زاد عددهم بشكل كبير في الوقت ذاته.
ستحدث بعض التداعيات المزعزعة للاستقرار. على سبيل المثال، من المتوقع أن يرتفع مستوى سطح البحر بمقدار 20 سم بحلول عام 2050، وهو ما قد يبدو مقدارًا ضئيلًا لكنه سيؤدي إلى تملح السهول الساحلية الشاسعة ودلتا النيل، ما يؤثر سلبًا على سبل عيش ملايين الأشخاص؛ أو معاناة ما يصل إلى 250 مليون شخص من ندرة المياه. إن ارتفاع درجة حرارة البحر باعتباره قوة محركة تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة في الغلاف الجوي على المدى الطويل يعني أننا سنعاني من آثار المشكلة لفترة طويلة وستزداد سوءًا حتى في أكثر السيناريوهات مثاليةً وعقلانيةً فيما يتعلق بالتخفيف من آثار انبعاثات الغازات الدفيئة.
يجب علينا الاستعداد لهذه التداعيات وغيرها الكثير. ومع ذلك، إذا اقتصرنا في جهودنا على اتخاذ تدابير تهدف إلى إحداث أثر مباشر واحد يعني أننا لم نستوعب بعد أننا نخاطر بخسارة أمر مهم للغاية، ألا وهو هوية ووحدة مجتمع الألفية الذي عاش وازدهر على ضفاف البحر المتوسط وعلاقاته البناءة مع دول الشرق والجنوب.
إذا أمعنا النظر في الكرة الأرضية سندرك أن مفهوم القارة في حد ذاته بالنسبة لأوروبا ليس سوى حالة شاذة. وبتطبيق معايير ترسيم حدود القارات المطبقة على جميع القارات الأخرى، نرى أنه لا ينبغي أن تكون أوروبا موجودة: إنها مجرد قطعة صغيرة من آسيا. ومع ذلك، لا تزال أوروبا تشعر وكأنها قارة منفصلة.
ما الذي يجعلها كذلك؟ الوحدة الثقافية المعينة، أو حتى الوحدة الفيزيولوجية، أو إحساس المجتمع بالتنوع. ونادرًا ما تُطرح الأسئلة عن جذور هذه التفردات التي لا تعتمد على العزلة المادية، لكنّ هناك من طرح هذا التساؤل، بدءًا من مونتسكيو الذي رأى أن الهوية الأوروبية هي نتاج الاستثناء المناخي الذي بارك أوروبا منذ نهاية العصر الجليدي الأخير، منذ سنوات حوالي 10000، حيث تتمتع أوروبا بمناخ معتدل يعود الفضل في استقراره إلى سكون كتلة مائية ضخمة ومغلقة.
إذا كان رأي مونتسكيو صائبًا -وفي ظل المعايير المعاصرة يمكننا الجزم بصحة رأيه- فهذا يعني أن مناخ أوروبا قد لعب دورًا حاسمًا في تشكيل هويتها وتحديد مصالحها. وينطبق ذلك أيضًا على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، والذي بدينامياته المميزة لهويته يمثل أفريقيا دون أن يكون في الواقع في أفريقيا. لقد استفاد الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط من تميزه المناخي المواتي الذي ساعد على تميز هويته. وقد ارتبط هذان الاستثناءان بشكل إيجابي بفعل استقرار البحر الذي نتشارك فيه وهيئا الظروف للثورة الزراعية: إعادة الهيكلة الاجتماعية الكبرى التي انبثقت منها المنظومة البشرية التي تشكلنا نحن البشر. وحدث ذلك حول البحر المتوسط، بين أوروبا والأناضول وفينيقيا؛ لأن التخطيط للمحاصيل استدعى استقرار المناخ والتنبؤ به. إلا أن هذا المناخ يتغير. لم تعد نعمة سكون الاستقرار الذي أحدثه حوض مائي واسع مثل البحر المتوسط مجديًا عندما تخزن مياهه تخزن جرعات متزايدة من الطاقة وتطلقها في المنظومة، ما يحول مناخه إلى فوضى. وليست تلك مجرد مسألة رياح وأمطار، ولا حتى مسألة أنثروبولوجية علمية، بل تتعلق بالاقتصاد والتجارة والجغرافيا السياسية. وهذا أمر خطير.
إن الأسس العميقة لتوازننا الإقليمي آخذة في التغير، وأصبحت غير مستقرة، كما أن هناك صراعًا مدمرًا يزداد سوءًا يلوح في الأفق إذا وضعنا أنفسنا في منافسة متزايدة في ظل ما نواجهه من نقص وشكوك جديدة. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى كل ذلك بمنظار العلم الذي يطالبنا -كثيرًا- بالإنصات إليه وبنظرة موضوعية، نجد أن المناخ المتغير يضطرنا إلى أخذ رد فعل معًا وبذل قصارى جهدنا، وبذلك يمكن أن تتحول هذه الأزمة إلى فرصة غير مسبوقة للسلام.
جرامينوس ماستروجيني، نائب الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط